زواج جرّابة- قصة العريفة، الفقيه، وجريبان بين الطمع والنهاية المأساوية

المؤلف: علي بن محمد الرباعي11.18.2025
زواج جرّابة- قصة العريفة، الفقيه، وجريبان بين الطمع والنهاية المأساوية

في أجواء قروية هادئة، تجلّت زرقة السماء بعد انقشاع الدَّينة، كصفاء المرقة في الطاسة. قام العريفة، شيخ القرية، بوضع يده على جبينه ليحميه من وهج الشمس، وتفرّس ببصره من ظل المسجد نحو الفقيه، العالم الديني، الذي كان يعلف ثوره في الفناء العلوي. ناداه العريفة بتقليل احترام، لكن بودّ، وشعر فيه بنزعة المرح والدعابة. "استسقيت بنا صُبحا"، قال العريفة ممازحًا، "وكان معنا عِينة وانصرفت! صرفوا وجهك عن القبلة، لأن حقوق الناس ملأت حلقك، ودُعاك الذي تدعي به لا يرتفع فوق رأسك شبرًا!". حدّق الفقيه في العريفة، وأجابه بتهكم: "غبنتني يا جمل ما يشوف سنامه! لا عينك تدمع، ولا بطنك يشبع، ولا كفك تدفع، أخشع أخشعك الله!". انفجر العريفة ضاحكًا، وردّ: "أمنّك ولد خالتي، والقُرص من طرف العجينة!".

تأمل العريفة حوله بحذر، وتيقّن من عدم وجود أحد يسترق السمع لحديثه، ثم قال: "يا ولد خالتي، ما بالك تركت أختك واقفة؟". أجابه الفقيه: "والله لا وقفتها ولا حسّرتها ولا قصرت بحقها، وهل اشتكت عليك؟". ردّ العريفة: "لم تشتكِ، لكن أراها تباقم باللبانة، كمباقمة الحمارة المنشّعة، وجارنا (جريبان) لا يملك زوجة ولا ولد، وسيموت بلا ورثة، ألا تنكح أختك (جرّابه) لكي تستتر، ويكرمها الله بالرزق وتستظلّ بكنفه؟".

أرخى الفقيه حبل الثور من يده وتركه يغادر الساحة، وطلب من العريفة مرافقته للإمساك بالثور، لكن العريفة رفض قائلاً: "أتقيمنا من الفيء وتأخذنا إلى لهيب القيلة؟". أمسك الفقيه بذراع العريفة وجذبه قائلاً: "ألا تعرف ملقطات النمائم، مدنسات العمايم؟ والله لو سمعتك تذرع فيها لجريبان، لخرجت عليك بعطيفها وجرّبتك جربًا!".

انبسط العريفة من كلمات الفقيه، وحرّك شفتيه متمتمًا ببعض الكلمات، ثم قال وهو ينسل من ثلمة: "ليلاً بنصبر على غُلْبه وليلا نجربه". وأضاف: "إن كنت خائفًا منها، فأبو ناشي لا يخاف إلا من منشي المناشي". وطلب منه أن يرسل أخته إليه بعد العصر لتشرب معه دلّة قهوة، وألا يبدي لها شيئًا. فقال الفقيه: "يا الله في درب الخَيَرة، انقضى اللازم".

أقبلت المرأة، متزيّنة بالكرتة الحمراء، ومحتزمة بشرشف، والمعصب الأصفر مشدود على شيلتها، وتفوح منها رائحة شلخة كادي وعبق بعيثران وريحان يزين جانبها. ما إن دخلت وسلّمت، حتى انتزعت الكادي بريحانه من جانبها، وغرّزت به ولد خالتها العريفة، وثبّتته تحت عقاله، بينما العريفة يموص فناجيل القهوة ويردد: "طاب فالك طاب فالك".

همس العريفة بكلمات معسولة: "تضيعين عمرك في خدمة أخوك الفقيه الفاجر، وحرمته بنت كليف الداشر. وجهك كشقة النور، وعودك كالخيزرانة، وجريبان فحل، ومن بيت فحالة، فلجانهم ترزم كالرُّعد، ورشوحهم إذا وردوا كالوشّق". لم تتمالك المرأة نفسها، وأصدرت صوتًا مصحوبًا برائحة، فقال العريفة: "عَلْوَة والله يا بنت خالتي، في ذمتي إنك تستاهلين الطيّبة، وجريبان منفقع، لا يغرّك دهشرته، فمن محزمه وباطن باقي حيّ. ما خرجت إلا وهي مخطوبة، راغبة ما هي مغصوبة".

أخذ العريفة من عشائه لقمتين، وقال لزوجته: "سنّعي لي دغبوس وشوية مرقة، سأسري لزيارة (جريبان)، يقولون إن باب المراح قد لاح على طرف بطنه وانتفخ، وسنذهب لنلمح له". وما إن دخل العريفة، حتى سمع أنين صاحبه، فقال: "هاك جئت لك بعسيّة". ردّ عليه المريض: "امسك لسانك، ولا أريد منك عسيّه، تركتني في حمى وأنت في الفيء". تواسى المريض، وابتلع الدغبوس في لقمتين، وأتبعها بالمرقة في جوفه، ومسح براطمه الدهنية بكفه، ثم سأل الزائر: "شُرحة اللافي عِلمه، هات علمك".

حلف العريفة بأغلظ الأيمان أن صاحبه لن يندم إذا أخذ (جرّابه)، وقال: "لو تعرف أمها، خالتي، الله يعفي عنها، ملّكتها البيت والوادي، رجل في نهارها، أنثى في ليلها، ساطية في مرقدها، لهبة في موقدها، ورعّادها يهزّ الجبال ويدلّي الحبال". وضحك العريفة، فانشرح صدر (جريبان)، وقال: "دعني أشاور". ردّ عليه العريفة: "من شاور خاير، ورجالها ماتوا في مثل عمرك، ولا أقيس عليك بشرّ". فأخرج (جريبان) خمسين ريالًا عربيًا، وأعطاها للعريفة قائلاً: "تراك مرشّد عنّي وعليّه، سدّني وسُرّني، سرّك خير".

زوّجوها لـ (جريبان)، وما حال الحول، إلا وهي تحمل ذراها في حضنها، وأنجبت ولدًا قِلفًا صِلفًا، لا يحنّ ولا يكنّ. وكبر الولد وهو لا يطلب من العريفة لقمة، بل كان للعريفة قعدة الشرّ، وكلما لقيه قال: "صوصك فضحك يا دجاجة مخرّقة في السفول". فينفر العريفة فيه، ويقول: "الله يجعلها تصاصي من تحتك، والسود فالي يوم غديت أخطب أمك لأبوك".

غلبته شيطنته، وما سلمت منه حتى حصى الحيلة، وفي يومٍ، عندما بلغ عمره تسع سنين، طارد ثعبانًا أسود مع غروب الشمس إلى جحره، واستحبه بذنبه، فالتفّ الثعبان عليه وبخّ عليه السمّ الذي أعمى عيونه.

يخرج (عميّان الشّمّام) في الضحى، ولا يعود إلا إذا سمع صوت ساري الليل، والبيت الذي فيه عيشة، يدبي له ويدخل نفسه بين العيّاشة، وغالبًا يطردونه ويتركونه فوق الصحن لحاله. وفي ظهرية أحد الأيام، دخل بيت خاله الفقيه، فقالت زوجة خاله: "أرحِب بمن حصّب لك الطريق؟". فقال: "حصّبها خشمي، شممت رائحة مخووضك، فقلت ألحق لي لقمة أفك بها ريقي، ولا تنسيني يا خالة من الحلاوة الطحينية التي جابها خالي (المطرطع) من مكة". علّق خاله بصوت خافت: "خلخلوا نيبانك ونيبان أبوك"، وأضاف بصوت مسموع: "يا حُبّك للخلخة يا عُميّان، بيُدقك بطنك". وقال لعياله: "لا تخارشون، سمّوا بالرحمن، والذي يسمع الكلام سآخذه معي يحاظي الصدّة".

دغّ (عميّان) في الحلاوة الطحينية وخرج من بيت خاله يلحّس براطمه، وفي ليلة أطول من هول الليل، جاع، وشمّ رائحة خبزة تحت المكبّ، فتسلّى وقطر عليها، وما حسب حساب جمر ولا دمر، اقتلعها واندس بها في الخِربة، ومن شدة حرصه على بلعها قوام، كبّر لقمته، ولقيوه في الصبح حِرجًا، وبقيّة الشتفة ناشبة بين سنونه التي كنها معباش.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة